ماذا بعد إنشاء بعض الشتامين من المرضى خُلُقيا، مجموعات "واتسأبية" تختص بالشتيمة، والكلام البذيء المُمتلئ سُبابا، والتعرُض للناس في كراماتهم في "عصر الذكاء الاصطناعي"؟. وماذا بعد إهمال هؤلاء، ما قيل قديما عن حق: "مَن زرع الريح حصد العاصفة"؟... وماذا تاليا، بعد ازدياد "العواصف" تلك في مُجتمعاتنا؟.

وجهة النظر القانونية

يبدو أن القانون وأحكامه، لم يردع الكثيرين من جرائم "القدح والذم"، مع انتفاء الرادع الخُلُقي. وثمة إهمال للمادة 385 من قانون العُقوبات اللبناني، الذي يُعرف "الذم" بأنه "نسبة أمر الى شخص (ولو في معرض الشك أو الاستفهام) ينال من شرفه أو كرامته".

ولجريمة "الذم" ركنان: ركن مادي وآخر معنوي. الأول يتمثل بـ "سلوك يصدر عن الجاني، هو نسبة أمر الى شخص من شأنه أن ينال من شرفه أو كرامته"؛ أي ينجم عنه احتقاره بين أهله ومجتمعه وبيئته.

واعتبر الاجتهاد أن "جرم الذم" يتحقق نتيجة توافر ثلاثة عناصر، هي: وجود واقعة مُحددة جرى إسنادها إلى شخص المجني عليه، وأن يكون من شأن هذا الإسناد المساس بشرف ذلك الشخص واعتباره، وأن يكون قد جرى الإفصاح عنها علنا.

وتتحقق "جريمة الذم" بأي وسيلة من الوسائل المذكورة في المادة 209 عُقوبات. كما وتتحقق إذا وقع الفعل الجُرمي على سبيل اليقين أو الشك أو الاستفهام، أكان صريحا أم ضمنيا، وسواء أكان مصدره المعلومات الخاصة، أو رواية منقولة عن الغير، أم إشاعة يرددها الجاني، على أن يكون من شأن كل ذلك النيل من شرف الشخص أو كرامته.

وينبغي أن يكون المذموم "مُحددا تحديدا كافيا لا لبس فيه"، حيث استقر الاجتهاد على "عدم الإدانة بجُرم الذم إذا كان مُوجها إلى شخص غير مُعين أو لا يُمكن تعيينه في شكل أكيد لا يترك مجالا للشك".

ولكن هذا لا يعني وجوب تعيين المذموم باسمه وأوصافه، تعيينا دقيقا، بل يكفي أن تكون عبارات الذم مُوجهة على صورة يسهل معها فهم المقصود منها ومعرفة الشخص الذي يعنيه الجاني؛ وإذا تمكنت المحكمة من فحوى عبارات الذم تحديد من هو المعني به، من دون تكلُف أو عناء، كانت الجريمة قائمة. وتقوم "جريمة" الذم إذا ذَكر الجاني الأحرف الأولى من اسم المذموم، أو صفة مُلازمة له، أو مهنته، أو وضع صورته إلى جانب المقال. وتعود لمحكمة الأساس، مسألة تقرير هل المذموم مُحددا أم لا.

وما لا يعلمُه الكثير من الناس، أن المادة 586 من قانون العُقوبات، نصت على أن "إذا وُجه الذم أو القدح إلى مَيْت، جاز لأقربائه، حتى الدرجة الرابعة، دون سواهُم، استعمال حق المُلاحقة"، مع الاحتفاظ بـ "حق كُل قريب أو وريث تضرر شخصيا من الجريمة".

وفي "جرائم القدح والذم" أيضا، يُشترط أن يكون من شأن الواقعة المُحددة، النيل من كرامة المذموم وشرَفه، بقصد احتقاره والحط مِن قدره، وتقليل احترامه في بيئته ومُجتمعه...

وما لا يعلمُه الكثيرون أيضا، أن "الواقعة" لا يُشترط فيها أن تكون كاذبة، فـ "جريمة الذم" تقوم أسواء كان الأمر صحيحا أم كاذبا، لأن الغاية من التجريم هي منع التشهير بالناس والنيل من كرامتهم وشرفهم. لذلك تبقى المسؤولية قائمة، ولو أبدى المُتهم استعداده لإثبات صحة الواقعة، حيث نصت المادة 583 من قانون العُقوبات، على: "لا يسمح لمُرتكب الذم تبريرا لنفسه، بإثبات حقيقة الفعل موضوع الذم أو إثبات اشتهاره"...

كما لا يشترط ارتكاب جريمة الذم في حُضور المذموم، فالجرم يقوم سواء تم الذم في مُواجهته أو في غيابه، وسواء عَلِم به المجني عليه أم لم يَعلَم.

ولا يُشترط وقوع ضرر مادي أو معنوي بالمذموم، بل يكفي أن يكون من شأن تلك الواقعة، أن تُلحق به الضرر؛ كأن تكون سُمعة المجني عليه أقوى من أن ينال منه الجاني مُرتكب جُرم الذم.

ولا ينتفي القصد الجرمي بالاستفزاز أو الاعتذار اللاحق أو ذيوع وقائع الذم.

وينتفي القصد الجرمي إذا أثبت الفاعل أنه كان مُكرها على توجيه عبارات الذم، وقد صدرت منه تحت تأثير التهديد، أو أنها كانت وليدة انفعال أو ثورة نفسية.

عُقوبة جريمة الذم

عاقبت المادة 582 من قانون العقوبات على الذم بأحد الناس المقترف يإحدى الوسائل المذكورة في المادة 209، بالحبس حتى ثلاثة أشهر، وبالغرامة المالية، أو بإحدى هاتين العقوبتين. ويقضي بالغرامة وحدها إذا لم يقع الذم علانية.

وتختلف العُقوبة إذا وقع الذم على أحد أفراد السُلطة العامة، فتُعاقب عليه المادة 386 بالحبس سنة على الأكثر، إذا وجّه إلى المحاكم، أو الهيئات المُنظمة، أو الجيش، أو الإدارات العامة، أو وجه إلى مُوظف ممن يُمارسون السلطة العامة من أجل وظيفته أو صفته. وبالحبس ثلاثة أشهر على الأكثر، أو بغرامة مالية إذا وقع على أي مُوظف آخر بسبب وظيفته أو صفته.

جريمة القَدح

القدح هو كُل لفظة إزدراء أو سُباب، وكُل تعبير أو رسم ينمان عن التحقير، إذا لم ينطوِ على نسبة أمر ما (م 385/2 عقوبات). فهو كل تعبير يخدش الشرف والاعتبار، أو كُل إلصاقٍ لعَيْب أو تعبيرٍ يحط من قدر الشخص نفسه أو يخدش سُمعته لدى غيره. وبذلك، يتميّز القدح عن الذم، فالذم يكون بنسبة أمر إلى شخص ينال من شرفه أو كرامته، أما القدح فلا يستلزم نسبة واقعة مُعينة، بل يتحقق القدح بإلصاق أي صفة أو عيب أو معنى شائن بالمجني عليه.

ويتمثل الرُكن المادي لجريمة القدح، في إطلاق لفظة إزدراء أو سُباب، وكُل تعبير أو رسم بقصد تحقير المعتدى عليه. فالقدح هو الاعتداء على كرامة الغير أو شُهرته أو اعتباره من دون بيان فعل معين...

كما ويُعتبر قدحا، "إنكار ونفي أهلية شخص لمُمارسة نشاط مُعين، والإيماء والتلميح إلى أن ثمة أمورا لا يمكن البوح بها على الهواء"، ما يُؤدي إلى إثارة الشُكوك في شأن صدقية الشخص المذكور، ويحمل على التساؤُل عن وجود أُمور مشينة تنال من سمعته ومكانته، وإهدار ثقة الغير واحترامهم له.

وتتحقق جريمة القدح، سندا إلى المادة 584 من قانون العقوبات، بأي وسيلة من الوسائل المذكورة في المادة 209 عُقوبات، المُشار إليها ضمن إطار جريمة الذم، كأن تكون بالقول أو الكتابة أو الإشارة.

فقد يقع جُرم القدح بإطلاق عيب مُعين أو نقيصة من النقائص. سواء كان خُلقيا؛ كالقول عن شخص إنه لص... أم بدنيا؛ كالقول عنه إنه قبيح الوجه... أم نقيصة خلقية؛ كالقول لشخص إنه حيوان أو كلب...

ولا تأثير للباعث على القصد الجُرمي في جريمة القدح، حتى ولو كانت شريفة!.

عُقوبة جريمة القَدح

عاقبت المادة 584 من قانون العُقوبات على القدح في أحد الناس المُقترف بإحدى الوسائل المذكورة في المادة 209، وكذلك على التحقير الحاصل بإحدى الوسائل الواردة في المادة 383، بالحبس من أسبوع إلى ثلاثة أشهر أو بالغرامة المالية. ويقضي بالغرامة وحدها إذا لم يقترف القدح علانية.

وإذا كان القدح مُوجها ضد أفراد السلطة العامة، تُعاقب عليه المادة 388 من قانون العُقوبات بالحبس ستة أشهر على الأكثر إذا وُجه إلى المحاكم أو الهيئات المنظمة أو الجيش أو الإدارات العامة، أو وُجه إلى مُوظف ممن يُمارسون السلطة العامة من أجل وظيفته أو صفته. ويعاقب بالغرامة المالية أيضا، أو بالتوقيف التكديري (من يوم الى عشرة أيام) إذا وقع على أي مُوظف من أجل وظيفته أو صفته.

وتقتضي الإشارة إلى أن دعوى الحق العام في جرائم الذم والقدح، تتوقف على اتخاذ المُعتدى عليه صفة المُدعي الشخصي، فلا تتحرك النيابة العامة إلا بناء على شكوى المُعتَدى عليه. وأما إذا تعرضت إحدى المطبوعات لشخص رئيس الدولة، بما يُعتبر مسا بكرامته، أو نشرت ما يتضمن ذما أو قدحا أو تحقيرا في حقه، أو في حق رئيس دولة أجنبية، تحركت دعوى الحق العام من دون شكوى المُتضرر.

وعليه، وبعد كُل ما بتنا نلحظُه من "تفُن" بمُمارسة ألوان الشتيمة في يومياتنا، والكلام البذيء المُمتلئ سُبابا، والتعرُض للناس في كراماتهم في "عصر الذكاء الاصطناعي"... لا يصح الاعتراض على "القدح والذم" اللاحقين بالإنسان، بواسطة الذكاء الاصطناعي مثلا، ما دام البشر في حد ذاتهم، ينتهكون كرامات بعضهم بعضا!.

التمرُد الآلي!

قد تبدأ المسألة بتمرُد الآلة على الإنسان، وهذا ما حدث بالفعل... ففي حادثة مُثيرة للجدل، إذ فوجئ أحد المُستخدِمين برفض مُساعد البرمجة بالذكاء الاصطناعي (Cursor)، تنفيذ "كود برمَجي" له، مُطالبا إياه بكتابته بنفسه.

والمُستخدِم الذي يُدعى Janswist الذي شارك تجربته قال إن (Cursor) أخبره بعد قضاء ساعة في البرمجة: "لا أستطيع إنشاء الشيفرة لك، لأن ذلك يُعد إكمالا لعملك… عليك تطوير المنطق بنفسك. هذا يضمن فهمك للنظام وقُدرتك على صيانته في شكل صحيح".

لم يتقبل Janswist هذا الرد، فقام بالإبلاغ عنه كـ "ثغرة أمنية" في مُنتدى مُنتجات الشركة، حيث كتب: "أخبرني كيرسور أن عليّ تعلُم البرمجة بدلا من طلب إنشائها منه". وأرفق لقطة شاشة تُؤكد الموقف.

وبحسب موقع "تك كرانش"، سرعان ما انتشرت القصة على موقع (Hacker News)، ولاقت تغطية إعلامية من موقع (Ars Technica)، حيث ناقش المُستخدمون السبب وراء هذا السُلوك الغريب.

وبعد... هل تبدأ المسألة بتمرُد، وتُستكمَل بإهمال للمسألة، وصولا إلى انتهاك الآلة حُقوق الإنسان، بعد انتهاك الناس حُقوق بعضهم البعض؟.

إنه صراع مُحتدم في عالم اليوم، بين القيم والتكنولوجيا!.